نهاية الامبراطور بونابرت
نابليون قهر جيوش أوروبا وهزمته ثلوج روسيا
ما يجري وراء القضبان شيء بشع، لانه إذلال للنفس البشرية، وحد من حريتها، لأن حريتها في يد الآخرين.
تداعت لي هذه المعاني وأنا أطالع الصور البشعة التي نشرتها الصحف العالمية ووكالات الأنباء والفضائيات عما يحدث من انتهاك لحقوق الانسان في سجن (أبوغريب) في العراق علي يد قوات الاحتلال، والتي تعطي للعالم صورة لحضارة (الكاوبوي)!
وهذه الصورة ذكرتني بالأيام الأخيرة لأشهر قائد تاريخي وهو نابليون بونابرت، عندما وقع أسيرا في يد قوات الحلفاء بقيادة انجلترا بعد هزيمة (ووترلو) ونفي الي جزيرة قاحلة في جنوب المحيط الأطلسي، اسمها سانت هيلانة.
يتذكر ما مر به من أيام المجد، وأيام الهزيمة، الي أن مات مصابا بالسرطان في 5 مايو 1821م.
والحديث عن نابليون بونابرت حديث يطول، وربما يذكرنا أيضا بما أحدثة من تغيرات في تاريخنا المعاصر يوم غزا مصر عام 1798م.
ومعروف أنه هرب من مصر عام 1799م ليبدأ انقلابا يتولي بعده السلطة في فرنسا، وهو الذي أشرف علي مراجعة القانون الفرنسي الذي أعطي الكثير من الحريات للشعب الفرنسي، ثم انطلق ليكون امبراطورية أوربية هائلة الي أن هزم في روسيا، ثم هزم بعد أن تحالفت عليه أوربا في معركة الأمم، حيث سقطت باريس في أيديهم في 11 ابريل 1814، وتنازل عن العرش، ونفي الي جزيرة (ألبا) في الساحل الشمالي الغربي لايطاليا، ولكن نابليون صاحب الطموحات التي لا تحد، عاد الي فرنسا من جديد، وحكم مائة يوم، حيث تصدي له الحلفاء بقيادة انجلترا وتحت قيادة القائد دوق ولينجتون، حيث هزم في موقعة 'ووترلو الشهيرة'.. وهنا فر الي باريس، وتنازل عن العرش، ونفي الي جزيرة سا نت هيلانة.
* * *
والعجيب أن نابليون وهو في سنوات تألقه لم يكن يؤمن اطلاقا بشيء اسمه الحظ..
كان كل شيء عنده محسوبا بالقلم والمسطرة.
المعارك العسكرية ممكن الانتصار فيها من خلال خطط موضوعة، يتسم بالعلم والمنطق ولا مجال للهزيمة في ظل هذه الخطط المحكمة.
والسياسة لابد أن تحقق النتائج المرسومة لها طالما أعد لها الاعداد الجيد.
ولكن هذه الأفكار عن الموضوعية والتخطيط، ابتدأ يتحفظ عليها يوم غزا روسيا، وتألبت عليه قوي الطبيعة البالغة القسوة، بجانب المقاومة الروسية، مما جعله يفقد نصف مليون جندي، ويعرف معني الهزيمة.
كما أنه أيقن أن هناك القدر الذي لا يمكن الافلات منه، وأحس بهذه السطوة في المعارك التي خاضها وفشل فيها، فقد كان يقول قبل أن يخوض معركة (ووترلو) التي هزم فيها، وانتهي دوره التاريخي بعدها.. قال نابليون قبل هذه المعركة.
'هاتف داخلي ينبئني أن النتيجة سوف لا تكون سارة، وأني أعزو فشلي الي أفول نجمة حظي'.
لقد اعترف نابليون بأن هناك أمورا من الصعب التحكم فيها، فوق قدرة البشر، ومن هنا عرف الرجل الذي لم يكن يؤمن بكلمة المستحيل، أن المستحيل قد يصبح حقيقة لا نعرفها في بعض الظروف.
* * *
كان نابليون يردد:
إن الحظ يعمل ضدي..
وكان يظن أنه بعد أن انتهي به المطاف سجينا في جزيرة (سانت هيلانة) أنه سوف يعيش البقية الباقية من عمره هاديء البال بعد أن عاش حياته السابقة كلها في طموحات تكوين امبراطورية فرنسية بالغة الاتساع، تشمل بجانب أوربا أجزاء من آسيا وافريقيا، ولكنه رأي أحلامه وهي تتهاوي، ورأي مجده وهو يتساقط، وأنه الآن حبيس جزيرة جرداء وآن له أن يستريح!
* * *
ولكن نابليون لم يكن يتصور أن نهاية حياته لن تكون راحة.. ولن يكون فيها ما يصبو اليه من سكينة اليأس، وأن سجانه سوف يعاملونه بقسوة بالغة لا تليق بالامبراطور نابليون، الذي دوي اسمه وشهرته في كل مكان!
ولم يكن يدري أن الانجليز سوف يحولون حياته الي جحيم لا يطاق في تلك الجزيرة القاحلة القابعة في جنوب المحيط الأطلنطي.
لم يكن يتصور أن حاكم هذه الجزيرة التي تخضع للنفوذ الانجليزي سوف يعامله بصلف وغرور.. وانه مجرد أسير.. وكان هذ الرجل الانجليزي اسمه (هدسون لو).. وكان يقول:
أنا آمر القائد بونابرت أنه أسيري!! وقد سمعه نابليون يقول ذلك، فرد عليه في حدة وغضب:
أنا لست أسير أحد.. إنما أنا ضيف الأمة الانجليزية!!
ويرد عليه الحاكم الانجليزي
هذا هراء.. وسأرغمه علي طاعتي أو أضعه في القيود والسلاسل.
وعاملوه معاملة في غاية القسوة والاذلال، حتي عبر عن ذلك أحد أصدقاء نابليون بونابرت بقوله:
'إنهم يقتلون بوخز الإبر رجلا عجزت عن هزيمته جيوش أوربا'!
* * *
وما أكثر ما احتد النقاش بين نابليون وسجانه، وكان نابليون يقول لهم أنه سيد أوربا، وسيظل اسمه في التاريخ، بينما لن يعرف التاريخ عن سجانه هذا شيئا.
وقال له نابليون يوما:
إنك تضحكني!
واتهمه هدسون له بخشونة الأخلاق!!
وقرر نابليون ألا يلقي هذا الحاكم مرة ثانية، لأنه يثير فيه الغضب، وبالفعل لم يلتق به هذا الحاكم بعد ذلك إلا ونابليون علي سرير المرض.
* * *
ويعلق المرحوم علي أدهم، علي هذا بعد دراسته عن (نابليون وسخرية الأقدار) بقوله:
'وهكذا ظلت الحرب التي ظن أنه قد نبذها وباعدها بقبوله المنفي فلاحقه، وتأبي أن تتركه، وظلت الحرب ناشبة الي يوم مماته، ولكنها كانت حربا ضد الطغيان الذي حاول أن يفرضه عليه هدسون لو، كانت حرب صغائر وسفاسف يثيرها مستبد ضئيل الشأن علي رجل فقد كل شيء، وعزيز قوم ذل.
وصار نابليون يعتقد أن هذه المعركة هي الحلقة الأخيرة من المعارك التي دامت طوال حياته ضد الانجليز. وكان (هدسون لو) في نظره يمثل الانجليز.
قال لليدي مالكوم:
'لقد لبست تاج فرنسا الامبراطوري، وتاج ايطاليا الحديدي، وانجلترا الآن تقدم لي تاجا أروع وأعظم، وهو اكليل الشوك'..
فالاهانة والتحقير والاستبداد تزيد في شهرتي، وإني أعزو الي انجلترا تألق مجدي وكان يعزي نفسه بقوله:
غيري من الناس يخفضهم فشلهم، أما أنا فقد رفعني الفشل الي أسمي المراتب، ولم يستطع أن يواجه حقيقة أن حبسه كان ثمنا تقاضته الأقدار لطموحه المتناهي، ومطامعه البعيدة، وللحيوات البشرية التي حطمها وأسال دماءها في حروبه العديدة، ولكنه كان في منفاه، وقد أثقلته المصائب وأذلته الأحزان أشجع منه في أيام مجده و الدنيا عليه مقبلة.
كان عظيما وجلدا صبورا، كان رجلا، وقد صبر صبرا جميلا علي سخرية الأقدار.
* * *
هذه صورة سريعة عن قائد من أعظم قواد التاريخ طالما صال وجال.. وطالما حلم بامبراطورية لا تغرب عنها الشمس.. وقد ذهب عنه كل هذه الطموحات، وعرف معني الهزيمة.. وعرف الشتات والغربة وقضبان السجون، ثم انتهي كل ذلك ولم يبق إلا مرارة الذكريات!
ولكن كل ما حدث لنابليون في منفاه من عذابات يتضاءل أمام ما يحدث الآن في سجن العراق الكبير.. في القرن الحادي والعشرين!!